الغيرة اللغوية المفقودة- إهمال العربية الفصحى وأخطاء النطق الشائعة

المؤلف: محمد المبارك التيرابي08.13.2025
الغيرة اللغوية المفقودة- إهمال العربية الفصحى وأخطاء النطق الشائعة

إن الكثير من الناس يعانون نقصًا كبيرًا في الغيرة على لغتهم العربية السامية، فتراهم لا يكترثون بالتحدث بالعربية الفصحى، بل ويتخوفون أو يخجلون من ذلك خشية أن يتهمهم البعض بالتزمت والتفاصح المبالغ فيه، وكأنهم بذلك يتكبرون ويتعالون على الآخرين ويخرجون عن المألوف السائد، بل إن منهم من يسخر باستهزاء من هذا الأمر برمته. ولكن العجب العجاب يتبدى حينما يتحدثون بلغة أخرى، كالإنجليزية على سبيل المثال، حيث تراهم على النقيض تمامًا، إذ يُظهرون شغفًا جمًا وحرصًا بالغًا على إتقان قواعد النحو والنطق السليم ومخارج الحروف بدقة متناهية، ويعتبرون أي تقصير أو إهمال في هذا الجانب عيبًا فادحًا يستدعي الخجل والاستحياء.

أضف إلى ذلك أن إقحام بعض الكلمات الإنجليزية في سياق حديثهم بالعربية يُعد – في اعتقادهم الواهم – مؤشرًا قويًا على قدراتهم المعرفية والثقافية الرفيعة، حتى وإن أخطأوا في نطق بعض الحروف! فهم على سبيل المثال لا يفرقون بين نطق حرف "P" الثقيل وحرف "B" الخفيف، ففي كلمات مثل "PURE" و "PEOPLE" و "PAPER"، غالبًا ما ينطقون الحرف "P" بباء خفيفة كما هو معهود في اللغة العربية، الأمر الذي يُحدث ارتباكًا واضحًا لدى المستمع الذي يتحدث اللغة الإنجليزية كلغة أصلية.

ومما يثير الاستغراب والدهشة أن العديد ممن يُفترض أنهم من أهل العلم والثقافة والمعرفة لا يبذلون أدنى مجهود في سبيل ممارسة النطق الصحيح لبعض الحروف العربية الأصيلة كحروف القاف والذال والثاء والظاء، حتى يتمكنوا من التعود على النطق السليم لها، بل إن بعضهم يتقدم لإمامة الناس في الصلاة بجرأة عجيبة مع سبق الإصرار والتعمد، ولا يُبدي أي اهتمام أو رغبة في تصحيح أخطائه اللغوية من خلال المران البسيط على النطق الصحيح لتلك الحروف، والبعض الآخر منهم قد تجاوز الستين من عمره، مما يجعل التوجيه والتلقين أمرًا بالغ الصعوبة، فيختلط المعنى المراد من الكلمات ويصبح غير مفهوم، بل قد يفسد المعنى تمامًا.

بهذه المناسبة أذكر قصة لطيفة حدثت لعربي سافر إلى أمريكا، ففي ذات يوم وبينما كان يقود سيارته، استوقفه أحد المارة الأمريكيين، والذي بدا عليه أنه يعاني من بعض الاضطرابات العقلية، فسأله العربي باللغة الإنجليزية قائلاً: "هل يمكنني أن أنبح هنا؟" (Can I "bark" here?)، حيث كان يقصد كلمة "park" التي تعني "أوقف" السيارة، ولكنه نطقها بـ "B" الخفيفة بدلاً من "P" الثقيلة، فكلمة "bark" تعني "ينبح"! ففهم المواطن الأمريكي بعفوية وبداهة أن الرجل يسأله عما إذا كان بإمكانه أن ينبح في ذلك المكان! فجاء الرد الأمريكي سريعًا وصاعقًا: "يا صديقي، هذه بلاد حرة، يمكنك أن تنبح فيها كيفما تشاء ووقتما تشاء، لا يوجد أي مانع على الإطلاق!" ثم أكمل طريقه بهدوء، وهو يشعر بالاستغراب الشديد من تردد هذا السائح في ممارسة حق مشروع له في بلاد الحريات! بينما ظل صاحبنا العربي في حيرة ودهشة تامتين، ولم يفهم شيئًا مما حدث.

نعود إلى حديثنا عن اللغة العربية، فمن دواعي العجب والاستغراب أن الكثيرين ممن يُنسبون إلى العلم والمعرفة والثقافة لا يجتهدون في ممارسة النطق السليم لبعض الحروف، كحروف القاف والذال والثاء والظاء، حتى يعتادوا على ذلك، بل إن بعضهم يؤم الناس في الصلاة بتبجح وإصرار مسبق، دون أن يبذلوا أي جهد في تعلم النطق الصحيح من خلال التدريب البسيط، والبعض الآخر قد تجاوز الستين عامًا، مما يجعل التوجيه والتعليم أمرًا صعبًا، فيختلط المعنى المقصود وقد يفسد تمامًا، فمثلاً عبارة "ذو القوة المتين" تختلف اختلافًا جذريًا عن عبارة "ذي الغوة المتين"، فالقوي تختلف عن الغوي، والغوي تعني الضلال والانقياد للهوى.

إن قلب حرف "القاف" إلى "غين" نتيجة للإهمال والتسيب والجهل والتجاهل، خاصة في تلاوة القرآن الكريم، هو أمر غير مقبول إطلاقًا. ففي الآية الكريمة "اهدنا الصراط المستقيم"، تتحول الكلمة عند الكثيرين إلى "المستغيم"، ومنهم من يعجز تمامًا عن نطق القاف بشكل صحيح في كلمة "المستقيم" مهما حاول، فقد اعتاد لسانه على نطق القاف "غينًا" لفترة طويلة منذ الصغر دون رقابة أو تصحيح، على الرغم من أنه نال قسطًا وافرًا من التعليم. ومثل ذلك قولهم "غولا سغيلا" في الآية "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا".

والمولى عز وجل يقول في كتابه الكريم: "أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا"، ومن ضمن معاني الترتيل – كما هو معلوم – إعطاء كل حرف حقه ومستحقه من حيث النطق والتجويد.

وينطبق الأمر ذاته على حرف الثاء الذي ينطقه البعض سينًا في مناطق مختلفة، وكذلك حرف الذال الذي يُنطق زايًا، والأغرب من ذلك أن بعض "المتعلمين" – الذين بلغوا من العمر عتيًا – لا يدركون أن حرف الظاء يتطلب إخراج اللسان قليلاً أثناء النطق به حتى يكون النطق سليمًا وصحيحًا، فمثلاً في قوله تعالى "فنادى في الظلمات"، هناك فرق واضح في النطق يدركه السامع إذا ما أخرج القارئ لسانه عند نطق حرف الظاء في كلمة "الظلمات" أم لم يخرجه، حتى وإن لم يره وهو يفعل ذلك، وهذا الأمر ينسحب أيضًا على حرفي الذال والثاء.

كما نجد تفاوتًا كبيرًا في نطق حرف الثاء لدى الكثيرين في كلمة "الكوثر" التي ينطقونها "الكوسر"، وكلمة "الثمرات" تُنطق "السمرات"، وفي قولهم "الزين" بالزاي من الآية "صراط الذين أنعمت عليهم"، و"نارا زات لهب" في الآية "سيصلى نارا ذات لهب"، وهذا ما يحدث بين الكثير من الناس في العديد من البلدان.

إنه قمة الإهمال واللامبالاة والاستسلام للجهل، إذ ينبغي على الإنسان – وخاصة إذا كان "متعلمًا" – أن يعرض قراءته للقرآن الكريم على أهل العلم والاختصاص في حلقات التلاوة والتحفيظ على سبيل المثال، وذلك قبل فوات الأوان، فالمؤمن مرآة أخيه، وهذه هي أسرع طريقة لاختبار الذات وتقييمها، إن صح التعبير.

ومن العجائب أن هناك من يلحن في قراءة القرآن الكريم وهو يؤم الناس في الصلاة لسنوات طويلة، ولم يجرؤ أحد على مصارحته بالحقيقة المرة طوال هذه المدة من قِبل القلة القليلة من المصلين الذين يدركون هذا الخلل الفادح، وذلك إما لعدم اهتمامهم بالأمر، أو لخشية اللوم والانتقاد والإحراج. نعم، إنهم يخشون الناس والله أحق أن يخشوه.

ومن هؤلاء أيضًا من يُحسب على العلم والمعرفة والثقافة كما ذكرنا سابقًا، ولكنه لا يدرك حقيقة جهله، فهو يعيش في وهم كبير في ظل ثقة بعض الناس من حوله بقدراته وكفاءته، و"تطمينهم" المستمر له بأنه سيدرك – لا محالة – حقيقة ما يجري لو كانت هناك أخطاء فادحة، فلو كان في الأمر – في تصورهم – ما يستدعي الاعتراض والتصحيح لما تردد صاحبهم في فعل ذلك بحكم "تعليمه"، وهم قوم لا يعلمون.

إن أكثر ما أضر بهذه الأمة وأوجعها في صميم قلبها – في زماننا هذا – هو الإهمال والتقاعس والتواكل في كثير من الأحيان، والتجاهل والوهم والترهل في أحيان أخرى، في ظل غفلة أو تخوف بعض الراشدين من القائمين على الأمر، وذلك على عكس ما هو عليه الحال في الدول التي تغار على لغة القرآن الكريم وتحرص عليها أشد الحرص، حيث يتم التدقيق الشديد في صحة القراءة وخلوها من الأخطاء، وذلك على الأقل من باب التحبيب والتشجيع والترغيب، بدءًا من المراحل الدراسية الأولى للنشء، لكي يترسخ بعد ذلك إيمان المرء بدينه وقيمه وموروثاته الحضارية والثقافية تبعًا لتمكنه من فهم واستيعاب مفردات لغته العربية نطقًا وكتابةً، معنى وفهمًا، وخاصة عند الغوص في أعماقها وسبر أغوارها، ليطمئن قلبه يقينًا فوق يقين.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة